إبحار في روحانية جبران خليل جبران

الكاتب والقس تشاندلر: كتابي إبحار في روحانية جبران خليل جبران
يرى أن فلسفته تتوافق مع نظرة الشباب للعالم اليوم

نقل عن جريدة: “الشرق الأوسط”.

لندن: جوسلين إيليا
بول غوردون تشاندلر، مؤلف وأمين معارض فنية، وهو قس أيضاً، عرف بدعواته للحوار بين الأديان. ولتحقيق هذا الغرض، أسس ورأس منظمة «كارافان للفنون الداعمة للسلام»، وهي منظمة غير حكومية، تستخدم الفن، كما هو واضح من اسمها، أداةً لبناء جسور بين الشرق الأوسط والغرب. وقد قضى بول الجزء الأكبر من حياته في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ مما جعله مهتماً بالعلاقات بين المسلمين والمسيحيين. وقد أصدر تشاندلر حديثاً كتاباً يتناول فيه جبران خليل جبران حمل عنوان «بحثاً عن نبي: رحلة روحانية مع خليل جبران». هنا حوار معه:

• تصف عملك بأنه «بناء السلام بين معتقدات وثقافات الشرق والغرب من خلال الفنون. كيف تمكنت من تحقيق ذلك في كتابك الجديد عن خليل جبران «بحثاً عن نبي»؟

– كتابي هو رحلة وإبحار في حياة وأعمال وروحانية خليل جبران، محاولاً استكشاف تأثير طفولته ونشأته، ومتتبعاً مسار حياته، وكيف وصل إلى تلك الحالة من التقبل الكوني والاحتواء للأطياف والأشكال كافة.

لقد اكتشفت أن خليل جبران شخصية مميزة تجمع بين الشرق والغرب؛ لذا يمكن الاسترشاد بشخصيته الفريدة وسيرته في زمننا هذا فيما يتعلق بالسلام والتناغم، وبناء الجسور بين ثقافات ومعتقدات الشرق والغرب. كذلك، هناك علاقة بين حياته ونهجه وأعماله، والكثير من الموضوعات المهمة في يومنا هذا، مثل سعيه لتجسير الهوة بين المعتقدات والثقافات المختلفة، والاهتمام بالبيئة، والمساواة بين الجنسين، والاهتمام بالروحانية، والهجرة، ووضع اللاجئين، والصراع في منطقة الشرق الأوسط.

وتم تسليط الضوء على هذا من خلال معرضين فنيين مهمين لبناء السلام أقيما في البحرين ومصر لعرض أعمال 36 فناناً معاصراً من الشرق الأوسط مستلهمة من رسالة السلام والتآلف التي حملها جبران. من المقرر دمج الأعمال الفنية التي تم تقديمها في المعرضين في معرض واحد أكبر يتم إقامته في دار «سوثبيز» بلندن في الصيف المقبل خلال الفترة من 6 حتى 10 أغسطس (آب) 2018.

• تم التركيز في كتاب «بحثاً عن نبي» على الجانب الروحاني لجبران. هل كان من الصعب إماطة اللثام عن أسرار روحانية جبران؟

– نظراً لوجود الكثير من الكتب التي تناولت سيرة جبران، أردت الغوص بشكل أعمق في التكوين الروحاني الداخلي له، والانغماس في كتاباته والبيئات التي شكلته. ساعد ذلك في أن تخرج أعماله إلى الحياة بالنسبة لي فقد كانت روحانيته منسوجة ومتغلغلة في كل ما فعله. بشكل أكثر تحديداً، لقد سعيت وراء فهم ما أدى إلى تحوله من شخص مولود في مجتمع مسيحي طائفي غير متسامح في ذلك الوقت إلى شخص متسامح متقبل لكل ما في عالمنا؛ مما جعله مقبولاً لدى الجميع. دفعني هذا إلى أن أجوب المتاحف والمعارض الفنية، والكنائس، والمساجد حول العالم، وكذلك إلى تأمل الثورات والثورات المضادة، كما أنه قاد خطاي نحو نقاط تأثير يصعب الوصول إليها ذهبت إليها كتاباته وأعماله الفنية.

لقد بدأت بقرية بشري حيث ولد، التي تقع في مكان مرتفع في قلب جبال لبنان المغطاة بالثلوج، ثم إلى بوسطن حيث هاجر هو وأسرته، وباريس حيث كان يتدرب على الفن، ونيويورك حيث قضى الجزء الأكبر من حياته المهنية، وصولاً إلى المكسيك في متحف «سمية» الذي يحتوي على أكبر مجموعة من أعمال جبران الفنية والأدبية في الغرب. وكذلك، ذهبت إلى الكثير من الأماكن الواقعة بين نصفي الكرة الأرضية مثل القاهرة في مصر، حيث تم نشر أكثر كتاباته باللغة العربية في الشرق الأوسط للمرة الأولى، ومدينة سافاناه في ولاية وجورجيا، حيث متحف «تيلفير»، الذي يضم أكثر أعماله في الولايات المتحدة الأميركية، ومدينة ديترويت، حيث «المتحف العربي – الأميركي الوطني» الذي يركز على إرثه، فضلاً عن أماكن كثيرة أخرى حول العالم توجد بها آثار، أو شوارع، أو مدارس، أو متنزهات تحمل اسمه.

• يضعك عملك في بناء السلام وسط تنوع عرقي وديني هائل يكون أحياناً دقيقاً وحسّاساً للغاية. فيما يتعلق بجبران، ما العقبات المماثلة التي واجهتها أثناء تأليفك الكتاب، وكيف تغلبت عليها وتجاوزتها؟

– بصراحة كانت أكبر عقبة واجهتها عند تأليفي للكتاب هي انتقاء أجزاء من مادة علمية هائلة متاحة عن جبران، واختيار ما ينبغي التركيز وتسليط الضوء عليه وهو عمق رحلته الروحانية.

تناول جبران الكثير من المسائل والأمور الحسّاسة في كتاباته، لكنه فعل ذلك بإبداع وشاعرية وبطريقة تحفز التأمل العميق، وتلهم القرّاء، وتحثّهم على الارتحال في قلب العالم الروحاني. وقد ساعدت الصور التي رسمها جبران من خلال أشعاره، وعمق حكاياته الرمزية وأمثولاته في كسر الحواجز، وجذبنا نحو ما أطلق عليه «أنفسنا العليا». لم يكن لدي أدنى فكرة عن مدى تأثيره على مستوى العالم، سواء من حيث انتشاره جغرافياً، أو مدى تنوع واتساع الفئات والجماعات التي تعرفه. فوجئت أثناء إقامتي وعملي في الشرق الأوسط بمشاعر الحب والإعجاب الفيّاضة تجاه جبران في أنحاء الشرق الأوسط ومناطق كثيرة من الغرب؛ فهو مدعاة فخر الشرق ومثار إعجاب الغرب؛ لذا كان شخصية تجمع وتوحد، حتى أن كل جماعة يمكن تصورها أياً كان دينها تتبارى على نسبه إليها. أعتقد أن هناك حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى الاستماع إلى الأصوات التي تدعونا إلى الوحدة والاحترام، والاتجاه نحو العيش بعمق وكرم فكراً وقولاً وعملاً فيما يتعلق بالآخر أياً كانت هويته؛ وما جبران سوى ذلك الصوت، حيث تقدم لنا تبصراته العميقة في زمننا هذا حكمة وإرشاداً نحن في أمسّ الحاجة إليهما، وهذا هو سبب تأليفي الكتاب.

• وصفت عملك بين معتنقي الأديان المختلفة، وبخاصة بين المسيحيين والمسلمين بأنه «البناء على الجانب المظلم من القمر». هل لك أن توضح لنا معنى هذه الصورة، ودور الفن في هذا الأمر تحديداً؟

– أنجح طريقة في تجربتي لبناء علاقات يسودها السلام والوئام هي الاستناد إلى الأمور المشتركة التي تجمع بين المسلمين والمسيحيين. تعجبني صورة «البناء على الجانب المظلم من القمر»؛ لأني أرى الهلال الرفيع من القمر، وهو أحد رموز الديانة الإسلامية، باعتباره الجزء الذي يمكننا رؤيته من القمر بسبب انعكاس ضوء الشمس، لكن عندما ترى هلالاً، يكون الجزء الأكبر من القمر مظلماً؛ لذا شبهت هذا الهلال الرفيع بالأمور المختلفة بيننا، والجانب المظلم الكبير (الجزء الأكبر من القمر) بالأمور المشتركة. من المهم بناء علاقاتنا على «الجانب المظلم من القمر». كثيراً ما تعمي الإضاءة المستمرة لاختلافاتنا أبصارنا إلى حد لا نستطيع معه رؤية كل ما يجمعنا من أمور مشتركة.

• لم يكن يُعرف عن خليل جبران ارتباطه بعلاقات وثيقة بشخصيات دينية، لكنك قسّ أسقفي، تمكنت من الوصول إلى تأويل روحاني رائع للكاتب، كيف فعلت ذلك؟

– قضيت الثمانية عشر عاماً الأولى من عمري في السنغال في مجتمع ذي أغلبية مسلمة، وجعلتني نشأتي في أسرة مسيحية تنتمي إلى الأقلية متحمساً تجاه بناء الجسور مع أخوتي المسلمين، وأخواتي المسلمات الذين كنت أعدهم من أصدقائي المقربين منذ البداية. وقد وجدت في جبران رفيقاً روحانياً يسعى وراء الهدف نفسه، كما توضح كلماته بشدة: «إنك أخي وأنا أحبك. أحبك وأنت تتعبد في كنيستك، أو تجثو على ركبتيك في معبدك، أو تصلي في مسجدك. أنا وأنت أبناء دين واحد لأن مسارات الدين المختلفة ما هي إلا أصابع ليد القوة العليا المحبة الممتدة إلى الجميع والتي تقدم كمال الروح إلى الجميع، وتود استقبال الجميع» (من كتاب «دمعة وابتسامة»، فصل «صوت شاعر»).

تناولت كتابات جبران في بداية مسيرته المهنية الظلم والنفاق الذي لمسه لدى الشخصيات والرموز الدينية في شبابه؛ مما أدى إلى تهديده بالحرمان الكنسي. مع ذلك، بمرور الوقت أصبحت نبرته أقل حدة، وتحولت نحو النهج الشمولي المتقبل، لكن المفارقة أنه قد تم تكريمه من كل الأديان في نهاية حياته، واستقبال جثمانه بالترحاب في وطنه لبنان كابن شهير محتفى به. وقع على كاهل جبران العثور على سبيل لتوصيل نسخة غير طائفية من الروحانية.

• هل تعتقد أن جبران قادر على جذب الجيل الجديد من الشباب، وإذا كان الأمر كذلك فما السبب في ذلك برأيك؟

– أعتقد أن أكثر الشباب قد نشأوا في مجتمعات تتسم بالتعدد والتنوع، وكوّنوا صداقات تمثل بشكل تلقائي وعفوي جسراً عابراً بين الانقسامات التي عادة ما تكون نظرية بطبيعتها بالنسبة إلى جيل الآباء والأجداد. لذا؛ أعتقد أن نظرة جبران للعالم ذات الطابع الكوني الشمولي وفلسفته تتوافق مع نظرة الكثير من الشباب للعالم اليوم، لكنهم لا يعرفونه. ومن الأسباب التي دفعتني إلى تأليف هذا الكتاب هو تعريف الجيل الجديد بجبران؛ وقد أهديت الكتاب إلى طفلي الاثنين.

من المؤكد أن الانتباه إلى حكمته سوف يساعد كثيراً في شفاء عالمنا اليوم، في زمن أصبح فيه من الصعب الإصغاء إلى أصواتنا الداخلية، وأرواحنا، أو حتى احتياجاتنا الروحية، يقدم جبران نموذجاً لشخص شيّد غرفة للصمت من أجل الإصغاء إلى وكز روحه الهادئة بنية السماح للحظات السعادة والشقاء في حياته بالامتزاج معاً مكونة صوتاً واحداً، وهذا هو «الصوت داخل الصوت» الذي أراد جبران أن يسمعه قراؤه عند قراءة كتاباته.

• لقد زرت لبنان، وتحديداً بلدة ومسقط رأس جبران. ما ذكرياتك عن هذه الزيارة، وهل ساعدتك في فهم الشاعر بشكل أفضل وأعمق؟

– لبنان من الأماكن المفضلة لي والمحببة إلى قلبي في العالم، حيث يمثل شعبه وطعامه وتاريخه وجماله مصدر إلهام لي في كل مرة أزوره فيها. لقد بدأت رحلتي في بلدة بشري، ونفخت تلك الرحلة الحياة في الكثير من الصور التي نجدها في كتابه الشهير «النبي»، مثل الجبال، والقرويين، والحكماء، وثروة جمال الطبيعة. وعلى الرغم من أنه عاش اثني عشر عاماً فقط من حياته وسط هذه الجبال الساحرة، مثلت تلك الفترة أساس جانبه الروحاني، ونظرته للعالم حتى نهاية حياته. على عكس الأجواء الهادئة الرائعة المحيطة به، ولد جبران لأسرة مسيحية مارونية إبّان فترة سادتها الاضطرابات والصراعات السياسية والدينية، وكذلك كانت من الفترات التي هيمن فيها فساد السلطة الدينية خلال النصف الثاني من حقبة الاحتلال العثماني، الذي دام 1400 عام، وكان لكل تلك الظروف تأثير على حياته وأعماله لسنوات.

عندما بلغ جبران الثانية عشرة من العمر هاجر مع أسرته إلى أميركا، وهناك قضى فترة مراهقته وبلوغه كمهاجر. من المثير للاهتمام اكتشاف جبران امتلاكه حرية الكتابة على نحو لم يكن ليتاح له في العالم العربي آنذاك. وكان قادراً بفضل خلفيته المتفردة المميزة على تحقيق الالتقاء بين الشرق والغرب الذي كان تجسيداً له، واستكشاف وحدة البشر والتحول إلى جسر طبيعي حي بين المعتقدات والثقافات المختلفة. كما قال كلود براغدون، المعماري والكاتب الأميركي البارز، وصديق جبران المقرب عنه: «تنبع قوته من مخزون هائل من الحياة الروحية، الذي لولاه لما كان عالمياً وقوياً إلى هذا الحد. لكن جمال وجلال لغته التي كانت تكسو تلك المعاني نابعان من هبة متفردة تمتع بها».